سورة الإسراء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} في تفسير هذا الأمر قولان:
القول الأول: أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم فقال الأكثرون: معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات، ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب الكشاف: ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون، إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا قال والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه، أن المأمور به إنما حذف لأن قوله؛ {فَفَسَقُواْ} يدل عليه يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ لا يفهم منه، إلا أن المأمور به قيام أو قراءة فكذا هاهنا لما قال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة؛ لأنا نقول: إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به، كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق، وهذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب الكشاف على قوله مع ظهور فساده، فثبت أن الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً وأقدموا على الفسق.
القول الثاني: في تفسير قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} أي أكثرنا فساقها.
قال الواحدي: العرب تقول أمر القوم إذا كثروا. وأمرهم الله إذ كثرهم، وآمرهم أيضاً بالمد، روى الجرمي عن أبي زيد أمر الله القوم وآمرهم، أي كثرهم.
واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله صلى الله عليه وسلم: «خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة» والمعنى مهرة قد كثر نسلها يقولون: أمر الله المهرة أي كثر ولدها ومن الناس من أنكر أن يكون أمر بمعنى كثر وقالوا أمر القوم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم، وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام: «مهر مأمورة» على أن المراد كونها مأمورة بتكثير النسل على سبيل الاستعارة.
وأما المترف: فمعناه في اللغة المتنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش {فَفَسَقُواْ فِيهَا} أي خرجوا عما أمرهم الله: {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} يريد: استوجبت العذاب، وهذا كالتفسير لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ فِي أُمّهَا رَسُولاً} [القصص: 59] وقوله: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون} [الأنعام: 131] فلما حكم تعالى في هذه الآيات أنه تعالى لا يهلك قرية حتى يخالفوا أمر الله، فلا جرم ذكر أنه هاهنا يأمرهم فإذا خالفوا الأمر، فعند ذلك استوجبوا الأهلاك المعبر عنه بقوله: {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} وقوله: {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} أي أهلكناها إهلاك الاستئصال. والدمار هلاك على سبيل الاستئصال.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجوه:
الأول: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء ثم توسل إلى إهلاكهم بهذا الطريق.
الثاني: أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما خص المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنهم يفسقون، وذلك يدل على أنه تعالى أراد منهم الفسق، والثالث: أنه تعالى قال: {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} بالتعذيب والكفر، ومتى حق عليها القول بذلك امتنع صدور الإيمان منهم، لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال.
قال الكعبي: إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدئ بالتعذيب والإهلاك لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وقوله: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ} [النساء: 147] وقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} [القصص: 59] فكل هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يبتدئ بالإضرار، وأيضاً ما قبل هذه الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله: {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الإسراء: 15] ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض، فثبت أن الآيات التي تلوناها محكمة، وكذا الآية التي نحن في تفسيرها، فيجب حمل هذه الآية على تلك الآيات هذا ما قاله الكعبي، واعلم أن أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة: القفال. فإنه ذكر فيه وجهين:
الوجه الأول: قال إنه تعالى أخبر أنه لا يعذب أحداً بما يعلمه منه ما لم يعمل به، أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره فإذا ظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه فقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} معناه: وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم أمرنا المتنعمين المتعززين الظانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم ترد عنهم بأسنا بالإيمان بي والعمل بشرائع ديني على ما بلغهم عني رسولي، ففسقوا فحينئذ يحق عليهم القضاء السابق بإهلاكهم لظهور معاصيهم فحينئذ دمرناها، والحاصل أن المعنى: وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف في تحقيق ذلك الإهلاك بمجرد ذلك العلم، بل أمرنا مترفيها ففسقوا، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق فحينئذ نوقع عليهم العذاب الموعود به.
والوجه الثاني: في التأويل أن نقول: وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها لم نعاجلها بالعذاب في أول ظهور المعاصي منهم، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي، وإنما خص المترفين بذلك الأمر، لأن المترف هو المتنعم ومن كثرت نعم الله عليه كان قيامه بالشكر أوجب، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع مرة بعد أخرى مع أنه تعالى لا يقطع عنهم تلك النعم بل يزيدها حالاً بعد حال فحينئذ يظهر عنادهم وتمردهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحق، فحينئذ يصب الله البلاء عليهم صباً، ثم قال القفال: وهذان التأويلان راجعان إلى أن الله تعالى أخبر عباده أنه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة حتى يعذر إليهم غاية الأعذار الذي يقع منه اليأس من إيمانهم، كما قال في قوم نوح: {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27] وقال: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ من قد آمن} [هود: 36] وقال في غيرهم: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} [يونس: 74] فأخبر تعالى أولاً أنه لا يظهر العذاب إلا بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام. ثم أخبر ثانياً في هذه الآية أنه إذا بعث الرسول أيضاً فكذبوا لم يعاجلهم بالعذاب، بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ، فإن بقوا مصرين على الذنوب فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال، وهذا التأويل الذي ذكره القفال في تطبيق الآية على قول المعتزلة لم يتيسر لأحد من شيوخ المعتزلة مثله.
وأجاب الجبائي بأن قال: ليس المراد من الآية أنه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقوا، وذلك لأنه ظلم وهو على الله محال، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة فكان التقدير وإذا قرب وقت إهلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وهو كقول القائل: إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدة، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة، وليس المراد أن المريض يريد أن يموت، والتاجر يريد أن يفتقر وإنما يعنون أنه سيصير كذلك فكذا هاهنا.
واعلم أن جميع الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في التمسك بهذه الآية، لا شك أن كلها عدول عن ظاهر اللفظ، أما الوجه الثاني والثالث فقد بقي سليماً عن الطعن، والله أعلم.
المسألة الثالثة: المشهور عند القراء السبعة: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} بالتخفيف غير ممدودة الألف، وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس: {آمْرُنَا} بالمد، وعن أبي عمرو {أَمْرُنَا} بالتشديد فالمد على الكثير يقال: أمر القوم بكسر الميم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد، أي كثرهم الله. والتشديد على التسليط، أي سلطنا مترفيها، ومعناه التخلية وزوال المنع بالقهر، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ} فاعلم أن المراد أن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ويتمردون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح. وهم عاد وثمود وغيرهم، ثم إنه تعالى خاطب رسوله بما يكون خطاباً لغيره وردعاً وزجراً للكل فقال: {وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} وفيه بحثان:
البحث الأول: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق، وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادراً على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه. وأيضاً أنه منزه عن العبث والظلم. ومجموع هذه الصفات الثلاث أعني العلم التام، والقدرة الكاملة، والبراءة عن الظلم بشارة عظيمة لأهل الطاعة. وخوف عظيم لأهل الكفر والمعصية.
البحث الثاني: قال الفراء: لو ألغيت الباء من قولك {بربك} جاز، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم. كقولك: كفاك به. وأكرم به رجلاً. وطاب بطعامك طعاماً. وجاد بثوبك ثوباً، أما إذا لم يكن مدحاً أو ذماً لم يجز دخولها، فلا يجوز أن يقال: قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك، والله أعلم.


{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القفال رحمه الله: هذه الآية داخلة في معنى قوله: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] ومعناه: أن الكمال في الدنيا قسمان، فمنهم من يريد بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم، إشفاقاً من زوال الرياسة عنه، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً لأنه في قبضة الله تعالى فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان، بل كما يشاء الله إلا أن عاقبته جهنم يدخلها فيصلاها بحرها مذموماً ملوماً مدحوراً منفياً مطروداً من رحمة الله تعالى. وفي لفظ هذه الآية فوائد.
الفائدة الأولى: أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة، فقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يصلاها} إشارة إلى المضرة العظيمة، وقوله: {مَذْمُومًا} إشارة إلى الإهانة والذم، وقوله: {مَّدْحُورًا} إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله، وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص.
الفائدة الثانية: أن من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على الله تعالى، وأنه تعالى بين أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى، لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب الله وإهانته، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب.
الفائدة الثالثة: قوله تعالى: {لِمَن نُّرِيدُ} يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد، بل كثير من الكفار والضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين، وهذا أيضاً فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضلال الذين يتركون الدين لطلب الدنيا، فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وأما القسم الثاني: وهو قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الأخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فشرط تعالى فيه شروطاً ثلاثة:
الشرط الأول: أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة، وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات» ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته، وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته.
والشرط الثاني: قوله: {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} وذلك هو أن يكون العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات، وكثير من الناس يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة، فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان، ولهم فيه تأويلان:
التأويل الأول: يقولون: إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته فليس لنا هذا القدر والدرجة ولكن غاية قدرنا أن نشتغل بعبودية بعض المقربين من عباد الله تعالى، مثل أن نشتغل بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة، ثم إن الملك والكوكب يشتغلون بعبادة الله تعالى، فهؤلاء يتقربون إلى الله تعالى بهذا الطريق، إلا أنه لما كان فاسداً في نفسه لا جرم لم يحصل الانتفاع به.
والتأويل الثاني لهم: أنهم قالوا: نحن اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء، ومرادنا من عبادتها أن تصير أولئك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله تعالى.
وهذا الطريق أيضاً فاسد، وأيضاً نقل عن الهند: أنهم يتقربون إلى الله تعالى بقتل أنفسهم تارة وبإحراق أنفسهم أخرى ويبالغون في تعظيم الله تعالى، إلا أنه لما كان الطريق فاسداً لا جرم لم ينتفع به، وكذلك القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقربون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة وأعمالهم المنحرفة عن قانون الصدق والصواب.
والشرط الثالث: قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وهذا الشرط معتبر، لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدم الإيمان، فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط، ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً والعمل مبروراً.
واعلم أن الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة: اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال، والثناء عليه بالقول، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظماً عن ذلك الشاكر، والله تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة، فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال، وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى، وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى، ورأيت في كتب المعتزلة أن جعفر بن حرب حضر عنده واحد من أهل السنة وقال: الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى أنا نشكر الله على الإيمان، ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده لامتنع أن نشكره عليه، لأن مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيح.
قال الله تعالى: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} [آل عمران: 188] فعجز الحاضرون عن الجواب، فدخل ثمامة بن الأشرس وقال: إنما نمدح الله تعالى ونشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل. وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل، والله تعالى يشكرنا على فعل الإيمان.
قال تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} قال فضحك جعفر بن حرب وقال: صعب المسألة فسهلت.
واعلم أن قولنا: مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل كلام واضح، لأنه تعالى هو الذي أعطى الموجب التام لحصول الإيمان فكان هو المستحق للشكر، ولما حصل الإيمان للعبد وكان الإيمان موجباً للسعادة التامة صار العبد أيضاً مشكوراً ولا منافاة بين الأمرين.
المسألة الثانية: اعلم أن كل من أتى بفعل فإما أن يقصد بذلك الفعل تحصيل خيرات الدنيا، أو تحصيل خيرات الآخرة، أو يقصد به مجموعهما، أو لم يقصد به واحداً منهما، هذا هو التقسيم الصحيح، أما إن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط، فالله تعالى ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية.
أما القسم الثالث: فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام، لأنه إما أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً، أو يكون الطلبان متعادلين.
أما القسم الأول: وهو أن يكون طلب الآخرة راجحاً، فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى فيه بحث، يحتمل أن يقال: إنه غير مقبول لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن رب العزة أنه قال: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشريكه وأيضاً فطلب رضوان الله إما أن يقال: إنه كان سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل أو داعياً إليه، وإما أن يقال: ما كان كذلك، فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء، لأن الحكم إذا حصل مسنداً إلى سبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه، وإن كان الثاني فحينئذ يكون الحامل على ذلك الفعل والداعي إليه ذلك المجموع، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله تعالى، لأن المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب كونه مغايراً لكل واحد من جزئيه فهذا القسم التحق بالقسم الذي كان الداعي إليه مغايراً لطلب رضوان الله تعالى فوجب أن يكون مقبولاً، ويمكن أن يقال لما كان طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولاً، وأما إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين، أو كان طلب الدنيا راجحاً فهذا قد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكلية عن طلب الآخرة.
وأما القسم الرابع: وهو أن يقال إنه أقدم على ذلك الفعل من غير داع فهذا بناء على أن صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا؟ فالذين يقولون إنه متوقف قالوا هذا القسم ممتنع الحصول، والذين قالوا: إنه لا يتوقف قالوا: هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {كُلاَّ} أي كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه: {نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ} أي أنه تعالى يمد الفريقين بالأموال ويوسع عليهما في الرزق مثل الأموال والأولاد، وغيرهما من أسباب العز والزينة في الدنيا، لأن عطاءنا ليس يضيق عن أحد مؤمناً كان أو كافراً لأن الكل مخلوقون في دار العمل، فوجب إزاحة العذر وإزالة العلة عن الكل وإيصال متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح فبين تعالى أن عطاءه ليس بمحظور، أي غير ممنوع يقال حظره يحظره، وكل من حال بينه وبين شيء فقد حظره عليك.
ثم قال تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} وفيه قولان:
القول الأول: المعنى: انظر إلى عطائنا المباح إلى الفريقين في الدنيا، كيف فضلنا بعضهم على بعض فأوصلناه إلى مؤمن. وقبضناه عن مؤمن آخر، وأوصلناه إلى كافر، وقبضناه عن كافر آخر، وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32] وقال في آخر سورة الأنعام: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتاكم} [الأنعام: 165].
ثم قال: {وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} والمعنى: أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس، فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم، فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، فإذا كان الإنسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى.
القول الثاني: أن المراد أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا، والمعنى أن المؤمنين يدخلون الجنة، والكافرين يدخلون النار، فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين، ونظيره قوله تعالى: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24].


{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في بيان وجه النظم. فنقول: إنه تعالى لما بين أن الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العقاب والعذاب، ومنهم من يريد به طاعة الله وهم أهل الثواب. ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة: أولها: إرادة الآخرة.
وثانيها: أن يعمل عملاً ويسعى سعياً موافقاً لطلب الآخرة.
وثالثها؛ أن يكون مؤمناً لا جرم فصل في هذه الآية تلك المجملات فبدأ أولاً بشرح حقيقة الإيمان، وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشركاء والأضداد فقال: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ} ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المقدم عليها، والمشتغل بها ساعياً سعياً يليق بطلب الآخرة، وصار من الذين سعد طائرهم وحسن بختهم وكملت أحوالهم.
المسألة الثانية: قال المفسرون: هذا في الظاهر خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله: {يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1] ويحتمل أيضاً أن يكون الخطاب للإنسان كأنه قيل: أيها الإنسان لا تجعل مع الله إلهاً آخر، وهذا الاحتمال عندي أولى، لأنه تعالى عطف عليه قوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} إلى قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} [الإسراء: 23] وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام، لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده فعلمنا أن المخاطب بهذا هو نوع الإنسان.
المسألة الثالثة: معنى الآية أن من أشرك بالله كان مذموماً مخذولاً، والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه:
الأول: أن المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذم والخذلان.
الثاني: أنه لما ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر ولا مقدر إلا الواحد الأحد، فعلى هذا التقدير تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى، فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله تعالى، مع أن الحق أن كلها من الله، فحينئذ يستحق الذم، لأن الخالق تعالى استحق الشكر بإعطاء تلك النعم فلما جحد كونها من الله، فقد قابل إحسان الله تعالى بالإساءة والجحود والكفران فاستوجب الذم وإنما قلنا إنه يستحق الخذلان، لأنه لما أثبت شريكاً لله تعالى استحق أن يفوض أمره إلى ذلك الشريك، فلما كان ذلك الشريك معدوماً بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين. وذلك عين الخذلان.
الثالث: أن الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة، فمن أثبت الشريك فقد وقع في جانب النقصان واستوجب الذم والخذلان، واعلم أنه لما دل لفظ الآية على أن المشرك مذموم مخذول وجب بحكم الآية أن يكون الموحد ممدوحاً منصوراً، والله أعلم.
المسألة الرابعة: القعود المذكور في قوله: {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} فيه وجوه:
الأول: أن معناه: المكث أي فتمكث في الناس مذموماً مخذولاً، وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى، فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب: هو قاعد بأسوأ حال معناه: المكث سواء كان قائماً أو جالساً.
الثاني: إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه.
الثالث: أن المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها، والسعي إنما يتأتى بالقيام، وأما العاجز عن تحصيلها فإنه لا يسعى بل يبقى جالساً قاعداً عن الطلب فلما كان القيام على الرجل أحد الأمور التي بها يتم الفوز بالخيرات، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات. والقعود كناية عن العجز والضعف.
المسألة الخامسة: قال الواحدي: قوله: (فتقعد) انتصب لأنه وقع بعد الفاء جواباً للنهي وانتصابه بإضمار أن كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك، والتقدير: لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء التي هي حرف العطف.
وإنما سماه النحويون جواباً لكونه مشابهاً للجزاء في أن الثاني مسبب عن الأول، ألا ترى أن المعنى إن انقطعت جفوتك كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر قعدت مذموماً مخذولاً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8